إن التراث النظري السوسيولوجي حافل بالكتابات الكثيرة عن الفقر والانحراف الاجتماعي، ولكن الكتابات عن العلاقة بين الفقر والانحراف الاجتماعية مازالت قليلة ذلك لان الغموض مازال يكتنف بعض جوانب العلاقة بين الفقر والانحراف الاجتماعي، كما ساد التوجه إلى دراسة كل متغير بمعزل عن الأخر بدل معالجتها بشكل مترابط.
فاستأثر موضوع الفقر باهتمام الباحثين والسياسيين والاقتصاديين منذ خمسينيات القرن التاسع عشر وذلك عندما بدا المسئولون والمخططون يولون عناية كبيرة للتفاوتات الاجتماعية المتزايدة يوما بعد يوم في البلدان النامية خاصة.
والاهتمام بالفقر ليس وليد الاعتبارات الأكاديمية فحسب بل هوأيضا وليد اعتبارات متعددة ترتبط بتوجهات المجتمعات نحوأنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية مستقرة، وهذا نظرا للتغير السريع في المجتمع وخاصة على الصعيد التكنولوجي، والاقتصادي، فازدادت معه ظاهرة الفقر بشكل مخيف، على كل المستويات الدولية، الإقليمية والمحلية بالنسبة للمجتمعات، وهذا نتيجة تحول أنظمة الإنتاج وأسواق العمل وسرعة التغير التقني والثورة في وسائل الإعلام والنزعة الاستهلاكية، وتراجع قيم التكافل والتراحم...الخ.
ولقد أرتبط تعريف الفقر بمحاولات الإجابة على الأسئلة الاجتماعية المعقدة المتعلقة بالملكية والعلاقات الطبقية ودور السلطة السياسية وتصورات الفقير عن ذاته ومجتمعه لذا كان تاريخ البشرية مطبوعا بجدلية الصراع بين من يملك ومن لا يملك، وتعددت الحلول بين القانعين والثائرين.
وفي هذا السياق ندخل في مأزق الايدولوجيا والسياسة وتنظيرات الاقتصاد وننتقل من عامل إلى عامل حتى نصل إلى مشكلة هل الفقر مشكلة اقتصادية؟ أم انه مشكلة اجتماعية؟ أم انه مشكلة بيئية؟تنموفيها كل المشكلات السلوكية والاجتماعية.
وهذا ما يقودنا إلى مشكلة تعدد المداخل والاتجاهات النظرية لدراسة الفقر، فلقد طرح الفكر الاجتماعي الغربي، الفقر بوصفه بطالة ونقص في الدخل، بينما عدت الماركسية الفقر دافعا للسرقة والبغاء والجرائم..الخ، وذهبت بعض الاتجاهات النظرية في تفسير الفقر متأثرة في الغالب بالماركسية، منها النظرية الهامشية...وبظهور نظرية التبعية ظهرت مفاهيم جديد للفقر، وصولا إلى النظريات الحديثة وتفسيرها لظاهرة الفقر.
ولعل أهم تحد يواجه الفكر الإنساني وهويحاول تشخيص الفقر وتحديد مؤشراته ودوافعه ومن ثم تعريفه هوصعوبة الانتقال من دائرة المحلية إلى دائرة العالمية فقد كان الفقر دائما مطبوعا بالثقافة مشخصا بها، فتعددت معاني الفقر رغم أن مفهومه واحد، فهل نعني به الفقر الذي يتحدث عنه البيروقراطيون في المنظمات الدولية، وتقسيماتهم المعتمدة على خط الفقر، إلى سكان دخلهم منخفض، وفقر مطلق وفقر نسبي، ام نعني به الفقر عند الفلاسفة من علماء الأخلاق وهم يصنفون الناس إلى الفقير إلى الله، والمعدوم، والمحروم والكادح، ومستحق العون، والفقير باختياره، والفئات الخطيرة، والطبقات الشعبية، وهو! المصطلح المفضل لدى اليسار السياسي بعد ان كان يستخدم مصطلح الجماهير لدلالة على من يطلق عليهم علم الاجتماع المعاصر"الطبقة الدنيا"، أومن أطلق عليهم الجيل القديم من الماركسيين اسم التكتل العمالي اوالبروليتاريا، ام نعني بالفقر كما يفهمه الأكاديميون من الفقر الهيكلي والعزل والإبعاد والتهميش والاستغلال.
اما موضوع الانحراف الاجتماعي فقد أثار خلافات عديدة بين علماء الاجتماع وعلماء النفس في الوقت الحاضر، كما اختلفوا في تحديد طبيعة الانحراف الاجتماعي ومصدره وخصائصه.
وفي هذا السياق تكشف لنا معظم الدراسات التي أجريت في مجتمعنا عن ميل واضح نحوالمعالجة الجنائية " القانونية" لهذا الموضوع سواء من حيث مجالها اوأسلوبها اوالهدف منها، فكانت تنصب على انحرافات سلوكية معينة، كالجريمة، وجنوح الأحداث، تعاطي الحشيش والمخدرات، الخمر، الدعارة، وبعض المشكلات الاجتماعية كالطلاق، التفكك الاسري، ...الخ.
فواقع المجتمعات اليوم يؤكد على أن مختلف الانحرافات الاجتماعية مردها إلى متغيرات اجتماعية متعددة، ولعل أبرزها وأهمها هوظاهرة الفقر، الذي أصبح من سمات العصر الحديث، وهويطبع كل المجتمعات الحديثة منها والمتخلفة.
ولقد حاول علماء الاجتماع من "إبن خلدون" إلي "أوجست كونت" إلي "إميل دوركايم" وحتى يومنا هذا، التنظير للظواهر بمختلف جوانبها وصولاً إلي طائفة من القوانين التي لها ارتباط عضوي بالانحراف بمختلف جوانبها ( الاجتماعية، والاقتصادية والنفسية )، والتفريق ما بين الظاهرة الاجتماعية السوية وغير السوية.
ولعل اخطر الأمراض الاجتماعية التي يواجهها العالم، والمجتمعات النامية خاصة اليوم هي ظاهرة الانحراف الاجتماعي بالوسط الحضري الذي تقطن به ألاف من السكان الذين يعيشون في ظل مشكلة الفقر، ومن بين مؤشرات الانحراف في هذه المجتمعات، من تعاطي للمخدرات، التسول، الانحراف الجنسي، الدعارة، التسرب المدرسي...الخ.
يؤدي انتشار الجريمة في المجتمعات الإنسانية إلى فرض تحديات على صانعي القرار ومنفذيه. وكنتيجة للتحولات الاجتماعية العامة والتي شهدها المجتمع الجزائري في العقدين الأخيرين فقد زاد اهتمام العامة بالخوف من الانحراف الاجتماعي بكل مظاهره، ومن الاهتمام به كمشكلة اجتماعية تهدد الأمن العام للمجتمع وتتطلب رصد المصادر المناسبة لمعالجته وتحديد الفئات الاجتماعية المتضررة منها. وعلى الرغم من التراكم الكبير في البحوث الميدانية التي أجريت في هذا المجال، إلا أن الاهتمام بهذه المشكلة لازال متجدداً علماً بأن غالبية هذه البحوث تتناول الانحراف الاجتماعي من البعد القانوني دون التطرق اليه من البعد الاجتماعي.
من خلال هذا الطرح نجد ان العديد من الدراسات التي عالجت موضوع الفقر وموضوع الانحراف الاجتماعي لم تهمل التحولات الاجتماعية التي تحدث على المستوى المحلي اوالعالمي، على اعتبار ان هذه العمليات تشكل المحددات الأساسية لكلا الظاهرتين في البلدان المتقدة والنامية، والجزائر تعتبر ضمن قائمة هذه البلدان التي تتفشى فيها كل من ظاهرة الفقر والانحراف الاجتماعي، فاعتمدت سياسات تنموية للحد من ظاهرة الفقر والانحراف الاجتماعي.