مقدمة
لا يوجد كتاب تلقى من العناية والبحث مثلما هو الحال بالنسبة للقرآن الكريم، حيث ألفت الآلاف المؤلفة من الكتب والدراسات ما بين مطول ومختصر، شامل ومجتزأ، كلها تصب في خدمة النص القرآني وسبر أغواره، واستنطاق مكنوناته واستجلاء مراميه.
ومع تفرع العلوم والمعارف وظهور التخصصات والفروع المعرفية الكثيرة، كان طبيعيا أن يكون القرآن الكريم رافدا لكل هذه الاتجاهات ومغذيا لها، متماشيا معها تارة ومتقاطعا معها أخرى، مكونا بذلك نظرية قرآنية متفردة في أي فن من الفنون المعرفية وفي أي نسق من الأنساق. وحيث إن القرآن الكريم في الأساس هو كتاب تربية ومنهاج حياة، كان للعلوم الاجتماعية النصيب الأوفر من مساحة التقاطع بين القرآن الكريم والعلوم البشرية.
تُعرف العلوم الاجتماعية بأنها المناهج العلمية التي تدرس أصول نشأة المجتمعات البشرية والمؤسسات ومختلف العلاقات والروابط الاجتماعية وكذا المبادئ المؤسسة للحياة الاجتماعية. ويشكل علم الاجتماع واحدا من هذه العلوم.
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد مساحة واسعة ذات الصلة بهذه العلوم. وإلى هذا المعنى يشير عماد الدين خليل في حديثه عن التاريخ مثلا من بين العلوم الاجتماعية، فيقول: "إن ثمة حقيقة أساسية تبرز واضحة في القرآن الكريم، تلك هي أن مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت المسألة التاريخية التي تأخذ أبعادا واتجاهات مختلفة وتتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي الواقعي لتجارب عدد من المجتمعات البشرية وبين استخلاص يتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات عبر الزمان والمكان مرورا بمواقف الإنسان المغايرة من الطبيعة والعالم وبالصيغ الحضارية التي لا حصر لها. "
وموضوع السنن الاجتماعية هو موضوع قرآني في الأساس، أي أنه يستمد أصله من القرآن، فهو مصدره ومرجعه الأول، فإن الفكر البشري مهما أبدع في العلوم الاجتماعية واكتشف من النظريات والأفكار سيبقى مدينا للقرآن بهذا التفرد والسبق، ومهما يكن من أمر تنكر علم الاجتماع المعاصر لهذا المفهوم أو الأخذ به، فإن السنن الاجتماعية تبقى مفهوما يفرض نفسه بحيث لا يمكن للاتجاه الإسلامي في علم الاجتماع أن يتجاهله أو يتغافل عنه.
يقول سيد قطب في ظلاله، "إن الله قد خلق هذا الكون، وجعل له سنناً لا تتبدل؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها؛ ويتعامل معها - في حدود طاقته وحاجته - وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقيناً وتأكداً أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق..." .
وإذا كان الغرب قد اكتشف كثيرا من السنن الطبيعية وأبدع فيها، ووظفها لعمارة الأرض في المجالات العسكرية والمدنية المختلفة، مما مكنه من التحكم في ثروات الأمم ورقاب الشعوب المستضعفة، فإنه قد ذهل عن هذه السنن الاجتماعية، ولم يدرك إلى الآن كيف تعمل هذه السنن في واقع المجتمعات البشرية، لأنه قطع صلته بالوحي، ولذلك فهو غير قادر على فهم حقيقة النفس البشرية وطبيعتها ومشاكلها ووسائل علاجها، وهذا من شأنه ألا يسهم في حل كثير من المشكلات التي تعاني منها البشرية في العصر الحاضر، إن لم يعجل بتغيرات كبرى وتحولات في البنيات السياسية والمنظومات الاجتماعية، تحولات تكون سببا في مزيد من الشقاء والتعاسة للبشر.
وفي هذه الصفحات، سوف نحاول رصد المفاهيم السننية في القرآن الكريم، باحثين في خصائصها وأهميتها، محاولين الوقوف على منهج سليم لمقاربتها ودراستها، متوسلين إلى هذه المعاني بمحورين أساسين.
المحور الأول: السنن الاجتماعية، بحث في الماهية والأهمية
للوقوف على حقيقة السنن الاجتماعية في القرآن الكريم، لا بد من تعريف موف بالغرض للسنة في اللغة وفي الاستعمال القرآني، الذي نستطيع من خلاله التعرف على خصائص هذه السنن وأهميتها في الحياة العملية للإنسان.
في المفاهيم
السنة في اللغة تعني السيرة، حسنة كانت أو قبيحة، والأصل في هذا اللفظ – السنة – الطريقة والسيرة. وفي حديث المجوس (سنّوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقتهم وأجروهم في قبول الجزية منهم مجراها .
ويختلف مفهوم السنة في الاصطلاح تبعا للعلم الذي يستعمله، فهو عند علماء الحديث، ما أثر عن النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير، وهي عند الفقهاء ما طلب الشارع من المكلف فعله طلبا غير جازم، أما عند علماء الأصول المصدر الثاني للتشريع ممثلة في الأحاديث المنطوية على أحكام شرعية.
ويبدو أن المسلمين المتقدمين اختاروا لفظ السنة للدلالة على هذه الاصطلاحات اقتباسا من حديث النبي (ص)، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي..) أي طريقتي وهديي، وقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي).
أما في القرآن الكريم، فإن المستقرئ للفظة السنة في القرآن الكريم، نجدها لا تنطبق على أي من المدلولات السابقة، لكن لها مدلول آخر قوي، لا يمكن فهمه إلا في سياق القوانين الإلهية التي تحكم نظام العالم.
وعند البحث في القرآن الكريم، نجد أن مادة (سنة) وجمعها (سنن) وردتا ثمانية عشر مرة، في إحدى عشر آية، وهذه مواطنها:
1- "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" (سورة آل عمران - آية 137)
2- يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم" (سورة النساء - آية 26).
3- "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وان يعودوا فقد مضت سنة الأولين" (سورة الأنفال - آية 38).
4- " كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين" (سورة الحجر – آية 12-13).
5- "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا" (سورة الإسراء - آية 77)
6- "وما منع الناس إن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا" (سورة الكهف – آية 55).
7- "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا" (سورة الأحزاب - آية 38)
8- " لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (سورة الأحزاب – آية 60-62)
9- "فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (سورة فاطر- آية 4).
10- "فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إِيمَانُهُم لَمَّا رأوا بأسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ التي قَدۡ خَلَتۡ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ" (سورة غافر - الآية 85).
11- "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" سورة الفتح - آية 23).
والسنة هنا هي بمعنى العادة المتبعة، يقول ابن تيمية معرفا السنة (والسنة هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول ، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار) (ابن تيمية ، 13/69) ويقول الرازي: (السنة هي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع).
وبرغم وجود هذه الإشارات إلى معنى السنة عند المتقدمين، فإن هذا المفهوم لم يتبلور أكثر إلا في الفكر الإسلامي المعاصر مع بروز الاتجاه الاجتماعي في التفسير. وهكذا يمكن أن نجد تعريفا للسنن الاجتماعية عند محمد عبده، حيث قال: "السنن.. الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها قوم بالقوانين" .
وعرف سيد قطب السنن بقوله: "السنن هي قانون الله العادل في الخلق المؤثر في حياة الناس، لا يحابي أحدا"
إن المتأمل في هذه الآيات، يجد أن هذا مجالا جديدا للبحث والمعرفة، لم تصل إليه بعد عقول المتقدمين ولا المتأخرين من غير المسلمين، من أصحاب النظريات والرؤى في الاجتماع البشري، أما المسلمون المتقدمون، فبرغم مرورهم على آيات القرآن الكريم، وإحصائها والتدقيق في مدلولاتها، فإن الحديث عن السنن فيه لم يفرد بمبحث منفصل، وحري به أن يكون علما قائما بذاته مستويا على سوقه.
في الآيات السابقة الذكر، ورد لفظ "سنة" إما:
1- مجردا عن الإضافة كما في قوله تعالى: "قد خلت من قبلكم سنن"، وهذا ما يحيل على كل السنن الكونية والاجتماعية والتاريخية التي جعلها الله في الكون على مر الزمان والعصور، ودعا القرآن الكريم إلى البحث عنها واكتشافها والاعتبار بها.
2- كما ورد مضافا إلى اسم الجلالة أو الضمير الذي يعود عليه، كما في قوله تعالى: "ولن تجد لسنتنا تحويلا"، وهو ما يحيل على مصطلح السنن الإلهية، باعتبار أن الله سبحانه هو واضع هذه السنن بإرادته وحكمته.
3- ويرد مضافا إلى السابقين من الأمم والمرسلين، وهذا ما يحيل على السنن الاجتماعية والتاريخية، باعتبار أن ترتب الجزاء على الفعل الاجتماعي البشري ترتب مطرد وثابت في الزمان.
ومن هنائذ أمكن الحديث عن السنن الإلهية أو الاجتماعية أو التاريخية ويكون المدلول واحدا لا يكاد يختلف في هذه العبارات كلها، ويمكن تسميتها قوانين أو نواميس ويكون المعنى واحدا لا يتعدد.
ويمكن تعريف السنن الاجتماعية بكونها: "القوانين المطردة والثابتة التي تشكل إلى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية وتعين على فهمها" ( ). وهي حكم الله الذي قضى ويقضي به في عباده، سواء كان حكما تشريعيا أو حكما قضائيا (من قضاء الله في العباد)، وهذا الحكم المقضي به في الناس يمكن فهم أسبابه وتوقع نزوله، فقد جرت عادة الله بإنزال أمره في عباده بناء على أعمالهم الاختيارية ، التي استمرؤوها ولم يتحولوا عنها ، ثواباً لمن وافقوا منهج الله ، أو عقاباً لمن كفروا وشاقوا الله ودعاته ، أو ابتلاء للمؤمنين ، أو استدراجا وإملاء للطغاة ، وكذا ما وضع الله لعباده من شرائع .
وتنبع نظرية السنن الاجتماعية في القرآن الكريم من منطلق أن الكون بما فيه من مظاهر مادية وإنسانية دقيقة وهائلة لا يمكن أن يكون من محض صدفة واتفاق، وإنما هو من تدبير إله عليم حكيم، وما يصدر عن العليم الحكيم كله تصرفات حكيمة متناسقة خاضعة لقوانين محكمة، لأن أفعال العقلاء وأقوالهم منزهة عن العبث.
وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يكتشف كثيرا من القوانين المادية التي تحكم الكون وتتحكم في عناصره، مما يمكن الاصطلاح عليه بالقوانين المادية أو الطبيعية أو الكونية، كما استطاع أن يخضع كثيرا من هذه القوانين إلى المنهج العلمي التجريبي، فإنه لا يمكن أن يكون على معرفة صحيحة بالقوانين التي تحكم البشر والعمران والحضارات والأمم إلا عبر الوحي الذي يمثل القرآن الكريم أرفع صوره وأحدث بياناته، يقول الله في القرآن الكريم: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".
وبدون الوحي لم يكن ممكنا للإنسان أن يعرف هذه السنن الإلهية في النفس والمجتمعات البشرية، فقد كان الإنسان قديما يخضع للنظرة العفوية أو النظرة الخرافية الاستسلامية في تفسير الأحداث التاريخية وحركة المجتمع بوصفها كومة متراكمة من الأحداث والوقائع، فيفسرها تارة على أساس الصدفة، وتارة على أساس القضاء والقدر بدون إدراك مغزاها الحقيقي، وبدون التمييز بين أمر الله القدري الكوني، وأمره القدري الشرعي. كما أن التفسير اللاهوتي للتاريخ والمجتمع يتناول الحادثة نفسها ويربطها بإرادة الله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها بقانون الأسباب .
خصائص السنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم
من خلال الآيات التي تتحدث عن سنن الله في خلقه، نستطيع تجميع خصائص هذه السنن ومميزاتها التي تنضبط إليها ولا تخرج عنها:
1- ربانية المصدر
لا شك أن السنن والقوانين الموجودة في الكون، سواء كانت طبيعية أو تاريخية واجتماعية هي من أصل إلهي، فكما أن البشر لا يستطيعون أن يكونوا قانونا طبيعيا فكذلك لا يمكن تصور وجود قانون سنني بشري من وضع البشر، كل ما يمكن للإنسان فعله في الحالتين معا، إنما هو اكتشاف هذه القوانين وتسخيرها من أجل الانتفاع بمزاياه وتجنب مضادتها وتحديها.
وفي الآيات المؤصلة لوجود السنن، نجد النص على نسبة السنن إلى الله تعالى واضحا، كما في قوله تعالى: "سنة الله التي قد خلت من قبل" وقوله عز وجل: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا".
إن ربانية الوضع السنني يقتضي أن الله قادر على صرفها وتعطيله، لكنه سبحانه لا يفعل عادة وغالبا، وإنما يجري سننه كما سطرها ووضعها ودعا إلى اكتشافها. ولو كان تعطيل السنن من قبل الله سبحانه هو الغالب لما أمر الناس أن يسيروا في الأرض من أجل اكتشافها وتسخيرها.
2- الدقة والتنظيم:
ولما كان الله تعالى هو واضع السنن الاجتماعية، وأن ما خلق الله تعالى يمتاز بالدقة والتنظيم والتناسق، من الذرة إلى المجرة، فإن القوانين الاجتماعية لا تخرج عن هذه القاعدة، ولا يمكن أن يترك الله أهم كائن خلقه في هذا الكون عاريا عن التنظيم والضبط القدري والشرعي، ولذلك شرع له الشرائع ليسير عليها ويضبط وفقها حياته الاجتماعية، كما أرصد له قوانين وسننا تضمن السير السليم للبشرية على المستوى البعيد، فتثبت الخير والصلاح، وتنفي الشر والدخن.
من خصائص السنن الاجتماعية بحسب القرآن الكريم الدقة والانتظام، ولا يمكن تصور أنها فضفاضة أو عائمة بحيث تغيب حقيقتها عن النفوس فلا تدركها، لأن الله عز وجل ما كان ليدعو الناس إلى النظر في شيء ما لم يكن هذا الشيء قابلا للنظر فيه والقياس عليه، وذلك بأن يكون أولا دقيقا ومنتظما تعرفه العقول وتدركه الأفهام.
يقول الأستاذ أمحزون: (..إن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، لا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني، وإنما بالأعمال المنظمة ذات التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية أو الطبيعية سواء بسواء) .
3- ثبات السنن الاجتماعية في الزمان والمكان والناس.
إن السنن الاجتماعية هي حكم الله الذي لا يتخلف ولا يتبدل، قال الله تعالى: "وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" (سورة فاطر- آية 4) وقال تعالى: "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (الفتح، 23) وإذ قلنا إن السنن هي القوانين فإن القوانين من شأنها أن تكون مطردة لا تتخلف، لذلك فالسنن الاجتماعية لا تتخلف إلا في قضايا السنن الخارقة (المعجزات) وإن كان هذا الاطراد في الحياة البشرية لا يرى واضحا كما هو عليه الأمر في قوانين المادة ( ).
ومما يدل على ثبات السنن الاجتماعية، وأنها تعمل في المجتمعات الإنسانية كافة، كون القرآن الكريم أمر بالسير في الأرض والنظر في تواريخ الأمم السابقة وآثارها، ولا معنى لهذا الأمر الإلهي إلا إذا كانت السنن الإلهية عامة، وأن ما لحق بكل منها لحق بالآخرين، وأنه لا بد أن يلحق بنا، وبمن بعدنا، وبكل من يتلبس بنفس الأسباب التي بها لحق الأولين.
ومع أن الواقع البشري ليس منضبطا كانضباط الكون المادي، وذلك لأن الإنسان غير منضبط السلوك فهو دائم التقلبات، تتجاذبه مسؤوليته في هذه الحياة بموجب نصوص القرآن الكريم، وانجذابه نحو مجموعة من الغرائز والمثيرات، فإن هذا لا يؤثر على سنن الله الثابتة اليقينية التي جعلت لكل سبب نتيجة ولكل حالة منتهى. ومن هنا يمكن أن نقرر أن المجتمعات متغيرة، بينما السنن ثابتة.
كما أن وجود الخوارق والمعجزات والعادات، لا يقلل من شأن ثبوت السنن الاجتماعية في شيئ، فإن الشرع قد ضبط كل هذه الظواهر، وجعلها لا تخرج عن نطاق محدد، هو في المعجزات تأييد للنبوات، وفي الكرامات حالات خاصة لذوي الصفاء الروحي والإيماني، قد لا تخرج نفسها عن سنن النصر والتمكين، لكنها لم تكن متوقعة بحسب المعطيات المادية البحتة.
4- حتمية الوقوع:
وهو أيضا معنى قولنا لا تتخلف، وأنها شاملة لا تستثني أحدا ولا تحابي أحدا، فسنن الله مثلا في النصر والتمكين، والقيام والسقوط، تشمل كل من أخذ بها، لا تحابي أمة دون غيرها. إلا أنه يشترط لتحققها وجود الأسباب وحضور الشروط وانتفاع الموانع، فلا يمكن توقع النصر لمن لم يأخذ بأسبابه، ولا قضى على موانعه، ولا يمكن انتفاء السقوط الحضاري عن أمة توفرت أسباب سقوطها ولم يعد لها من مقومات البقاء والمنعة شيء. يقول الأستاذ أمحزون: "على أن جميع السنن التي فطر الله تعالى أمور الخلق – الطبيعية أو الاجتماعية أو التاريخية – قابلة للتراكم والإعادة بإذن الله كلما توفرت شروطها وانتفت موانعها التي تحول دون تحقيقهاٌ" .
ولذلك فإنه لا بد من فهم هذه السنن فهما دقيقا، وذلك بتعريفها وبيان العلاقة بين الأسباب والمسببات فيها، وتحديد الموانع في كل سنة من السنن الاجتماعية التي تحدث عنها القرآن الكريم نصا أو إشارة أو مما يمكن معرفته بالسير في الأرض والنظر والتفكر في المجتمعات البشرية في السابق والحاضر.
والحقيقة أن السنن قد لا تظهر حتميتها على المدى القريب أو المتوسط، وقد يستوجب الأمر في الغالب عقودا أو قرونا حتى تستعيد الحياة دورتها، وتقيم السنن ما اعوج وانحرف من في السير البشري، ولذلك فإن السنن قد تقبل التحدي على الأمد القريب، لكنها لا تقبله أبدا على الأمد البعيد.
أهمية السنن الاجتماعية في القرآن الكريم
إن النظر في ملكوت السماوات والأرض يهدينا إلى معرفة السنن الكونية (سنن التسخير) والنظر في تاريخ الأمم وأحوال المجتمعات - رقيا وانحطاطا- يهدينا إلى معرفة السنن الاجتماعية، وكلاهما - تبعا للمنهج القرآني- ذو أهمية في الحياة العملية للإنسان.
فبمعرفة هذه السنن يكون الإنسان على بصيرة من أمره فيما يقدم عليه أو يذر، ويتعظ بالعظات التي تحفظها صفحات التاريخ، فما من شك أن خاصية العقل في الإنسان إذا لم يغلبها عامل الهوى، تدفعه إلى التعلم من أخطاء الآخرين، والاستفادة من تجارب الماضين، والعمل على تراكم الانجازات في المجال الاجتماعي والسلوك البشري وتقليل الإخفاقات. وذلك بغرض تجنب سقوط محتم إذا ما تم الذهول عن السنن الاجتماعية في الكون.
إن النظر السليم في السنن الاجتماعية القدرية يدفع الإنسان إلى العمل بالسنن الاجتماعية الشرعية التي سطرها القرآن الكريم، والتي هي مجمل القوانين والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن لتستهدي بها البشرية في سيرها وخطاها.
ولأهمية هذه السنن في حياة الإنسان – باعتباره سيد الكون والخليفة فيه- نجد القرآن يشد أنظار المخاطبين وعقولهم إلى النظر والاعتبار والتبصر في ملكوت السماوات و الأرض، والاعتبار بأحوال المجتمعات الغابرة والكشف عن أسرار هذا الكون العجيب وقوانينه التي يسير وفقها، وطرق هذه القوانين في الأنفس والآفاق، وذلك في مثل قوله تعالى: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (137)
وتصل عناية القرآن بهذه القضية إلى حد النكير على أولئك الذين لا يستعملون وسائلهم المعرفية الخلقية في معرفة هذه السنن والاستفادة منها في الحياة العملية إصلاحا لأي خلل وضمانا لصواب المستقبل، كما في قوله تعالى: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (سورة الحج – الآية 46)
إن طلب السير في الأرض والنظر في العواقب والمآلات جعله النص الإلهي من الفروض الكفائية التي تفضي إلى التبين و التبصر والاهتداء إلى السنن الاجتماعية في السقوط والنهوض، واختزال التاريخ الإنساني وتحقيق الاعتبار وإضافته إلى عمر الأمة المسلمة وتجربتها لتحقق بذلك الوقاية الحضارية وتتعظ بأحوال السابقين. وهذا ما يفضي بنا إلى البحث في منهجية متكاملة للتعامل مع السنن الاجتماعية في القرآن الكريم بغرض تنزيلها وتفعيلها في الواقع العملي للمجتمعات البشرية عامة والاستفادة منها في النهوض بأوضاع الأمة الإسلامية.
المحور الثاني: منهجية تناول السنن الاجتماعية في القرآن الكريم
كأي موضوع من مواضيع القرآن الكريم، لا بد من منهج محدد المعالم لتناوله والإحاطة به وربطه بواقع الإنسان. ذلك أن القرآن ما أنزل إلا للفعل والتأثير في الحياة البشرية العملية، يصلح أحوالها ويقوم اعوجاجها ويسددها سيرها.
فبعد استقراء المواضع التي ورد فيها ذكر موضوع السنن تصريحا أو إشارة، يأتي دور المنهج العلمي لتناول السنن بهدف فهمها وفقه تنزيلها.
مظان السنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم
القرآن الكريم هو المؤسس لعلم السنن الاجتماعية، ولذلك لا بد وأن نجد فيه الدليل المرشد والهادي إلى هذه السنن من أجل اكتشافها والاستفادة منها، فانطلاقا من الآية الأولى - حسب ترتيب السور في القرآن - التي تشير إلى هذه السنن وتدعوا إليها نستطيع أن نعرف مظانها ومواضعها في الكتاب المسطور والكتاب المنظور، قال الله تعالى: "قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" (سورة آل عمران – الآية 137).
حيث تؤكد الآية، فضلا عن وجود السنن الاجتماعية، مصادرها التي ينبغي البحث فيها عنها، وهي كما سنفصله بإذن الله:
1- السير في الأرض هو أول مصدر ترشد إليه هذه الآية: "فسيروا في الأرض" من أجل النظر والتدبر والاعتبار"، فأول مصدر لهذه السنن الاجتماعية هو المجتمعات البشرية نفسها وتطورها في الزمان واختلافها عبر الأقطار. وطبيعي أن لا يكون القرآن نفسه هو المقدم لكل المعرفة المطلوبة، فإن الله سبحانه لم يقدم القرآن للناس من أجل أن يسدوا عيونهم وعقولهم عن مصادر المعرفة، وميادين التجريب والاختبار التي هي الحياة في شموليتها. بحسب القرآن الكريم أن يكون رسم المنهج وقدمه للناس، بل دعاهم بعبارات قوية إلى السير في الأرض والنظر والتفكر فيما فيها من أحوال وتقلبات.
إن كلمات الله التي لا تنفد أكثرها في الكون المنظور منها في القرآن المسطور. فعدد الآيات والكلمات في القرآن الكريم محدودة معدودة، لكن ما في الكون من عجائب الله في خلقه وأوامره وقضائه ما لا يمكن أن يتطرق إليه الحد ولا العد البشري، وعلى الإنسان أن ينظر فيهما معا. فيعمل عقله في الموجود ليستطيع إدراك مساحات كبيرة مما زال مجهولا بالنسبة إليه، من غير أن يعني هذا أنه سيصل المنتهى في العلم والمعرفة.
2- تحيل الآية أيضا إلى آيات الأحكام الاعتقادية التي تشكل المرجع والمؤطر العقدي للفكر والعمل، وذلك في قوله تعالى: "عاقبة المكذبين"، فالتكذيب يقتضي وجود رسالة وأحكام وعقيدة طلب من البشر أن يؤمنوا بها ويصدقوا، لكن أقواما جحدوا واستكبروا عنها، ويعتبر الوحي المرجع الأول لتبين ملامح هذه العقيدة، وتبين العلاقة التي تربط العقيدة بنوازع الإنسان إلى الفعل، وإلى أي حد يكون السلوك اعتقاديا وتكون العقائد سلوكية، وتكشف عن مدى تبعية الموقفين العملي والفكري للموقف العقدي وعن كونهما الواقع الحركي المجسد للعقيدة .
3- ولما كان الموقف العقدي يرتبط ارتباطا بالسلوك العملي، فإن التكذيب بالآيات يقتضي النكوص عن العمل بالأحكام الشرعية المبثوثة في القرآن الكريم، والتي تشكل منبعا مهما لمعرفة السنن الاجتماعية التشريعية التي تحمي المجتمع من السقوط، وتضمن له السير في معترك الحياة من دون تعثر ولا تقهقر. إن (آيات الأحكام الشرعية العملية هي أشبه ما تكون بوصفات الحمية والأدوية المتوفرة لكل الأدواء الممكنة الوقوع، والحالات التي قد يكون عليها المريض، فهي من جهة تسهر على وقاية النظام الاجتماعي من السقوط في براثين الأوحال الحضارية ومن جهة أخرى توفر في حالة تعثره أو سقوطه العلاجات المناسبة) .
4- وتدل الآية "كيف كان عاقبة المكذبين" على اعتبار التاريخ بما يحويه من أمثال وقصص معينا لا ينضب للدروس والعبر ومستودعا للسنن التي لا تتخلف، بغرض القياس عليها والاستفادة منها. والقرآن فيه آيات كثيرة، أحالت على أمثلة (ونماذج لنهوض الأمم وعللت أسباب النهوض، وقدمت نماذج لعوارضه وأمراضه، وبينت طريق السقوط، والانقراض الحضاري. وقدمت نماذج للطغيان والظلم السياسي، وطرق حماية المسلم من السقوط على أقدام الظلمة، وبينت مآل هذا السقوط وعواقبه، وقدمت نماذج للظلم والطغيان الاجتماعي، والمصير الذي انتهى إليه.. قدمت نماذج للترف والبطر، والكبر، وسائر الأمراض والأوبئة الاجتماعية المؤذنة بالخراب والتدمير) .
ويشكل القصص القرآني أبرز مساحة تارخية اجتماعية، وهذا ما جعل الدكتور عمر عبيد حسنة يشبهه بالمختبرات البشرية يقول: "إن ما ورد في القصص القرآني، يشكل مختبرات بشرية خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان من الناحية الاجتماعية كما يشكل منجما لاغتراف الثقافة الاجتماعية و العلوم الاجتماعية .
على أن المقصود بالسنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم، ما يمكن أن نستخلصه من أقوال النبي (ص) وتشريعاته، لأن الحديث مفسر للكتاب ومبين له، وأيضا ما يمكن أن نستفيده من المعرفة البشرية المتراكمة عبر الزمن، ما دامت منسجمة مع المعرفة القرآنية الأصلية والمنهج العلمي القويم.
منهجية تناول السنن الاجتماعية
للبحث في السنن الاجتماعية حسب المفهوم القرآني، لا بد من استحضار منهجية التفسير الموضوعي للقرآن، على اعتبار أن السنن هي واحدة من الموضوعات التي يمكن للاتجاه الموضوعي في التفسير أن يؤصل لها ويرسي أسسها وقواعدها.
والتفسير الموضوعي مصطلح في التفسير ذاع في العصر الحديث، وتداوله الباحثون في الدراسات القرآنية في أكثر من معنى، تتوحّد هذه المعاني في جمع المفسر للآيات في موضوع معين، ثم استخلاص رؤية القرآن حيال هذا الموضوع منها.
وقد تناول أمين الخولي هذه المسألة في معالجته لضوابط التفسير الأدبي الذي كان يدعوا إليه، وأوضح أن ترتيب القرآن في المصحف لم يلتزم بوحدة الموضوع، كما لم يلتزم بالترتيب الزمني لظهور الآيات، وإنما تحدث عن الموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومناسبات متنوعة. وهذا يقتضي أن يفسر القرآن موضوعاً موضوعاً لا قطعة قطعة ولا سورة سورة، وأن تجمع الآيات الخاصة بالموضوع الواحد، ويعرف ترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها.
وفي تقديري أن منهجية التفسير الموضوعي صالحة لتناول كل المفاهيم التي نروم البحث عنها وتأصيلها من خلال القرآن، لا بل هذه المفاهيم والموضوعات هي مجال بحث هذا الاتجاه من التفسير.
إن التفسير الموضوعي لا يهدف إلى إجراء تبسيطي يتمثل بتحشيد كمي لطائفة من الآيات في موضوع واحد، واستظهار المدلولات التفصيلية لها، ثم القيام بعملية دمج مبسط بين تلك المدلولات، وإنما هو محاولة لاستخلاص المركب النظري، والتوصل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي التفصيلي، بغية استلهام «أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، والوصول إلى مركب نظري قرآني، وهذا المركب النظري يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ، وهكذا» .
ويمكن استخلاص ضوابط التفسير الموضوعي وتلخيصها فيما يلي:
- استقراء كل ما يتصل بالموضوع في القرآن الكريم من آيات، سواء ذكرت فيها المادة موضوع الدرس أو لم تذكر. وفي مثالنا نستقرئ كل الآيات التي ذكرت فيها (سنة) بجميع مشتقاتها، (سنة) بمعنى الطريقة والتي تجمع على (سنن)، لأن (سنة) بالتخفيف التي جمعها (سنون) خارج عن موضوع بحثها، واستعمالها كثير في القرآن، لكنه هو غير استعمال (السنن). كما نستقرئ أيضا كل الآيات التي تتصل من قريب أو بعيد بالموضوع.
- استيعاب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة، ومن نقاط فراغ. أي البدء من واقع الحياة البشرية، وحمل التجربة البشرية إلى القرآن، والتوحيد بينهما، لا بمعنى تحميل هذه التجربة على القرآن، وتأويل النص طبقاً لها، وإنما بمعنى أن المفسر يقوم بعملية يوحّد فيها بين التجربة والنص في سياق بحث واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق ويستنطق موقف القرآن تجاه هذه التجربة .
- استخلاص أوجه الارتباط بين المدلولات التفصيلية للآيات، وتحليل ودمج وتركيب المدلولات، بغية الوصول إلى مركب نظري قرآني، تنتظم في إطاره المدلولات التفصيلية باتساق متناغم .
ومن الكتب التي لامست الجانب الاجتماعي في القرآن، نذكر كتاب «الدستور القرآني في شؤون الحياة » لمحمد عزة دروزة، و «المجتمع الإسلامي كما تنظمه سورة النساء» لمحمد محمد المدني، و «القرآن والمجتمع » لمحمود شلتوت. كما أن تفاسير العصر الحديث قد أثرت موضوع السنن في القرآن الكريم وزادت مفهوم السنة تحديدا وبيانا بما استفادته من العلوم الإنسانية في عصرها وبخاصة علم الاجتماع .
المفسرون والسنن الاجتماعية في القرآن
تناول المفسرون في العصر الحديث مشكلات الحضارة، والانحطاط والتخلف، وتفشي الأمية، والجهل، والمرض، والفقر، ومصادرة الحريات، والظلم والاستبداد، وغياب الدور الاجتماعي للمرأة، وغيرها من الأبعاد الغائبة في معظم آثار السابقين. واقترن ذلك بالدعوة لتحرير التفسير من الاستغراق في المباحث اللغوية، وسرد آراء الفرق، والافتراضات البعيدة عن روح القرآن.
وقد استفاق وعي نخبة من العلماء على أفكار جمال الدين الأفغاني ومقالاته، في مجلة العروة الوثقى، التي تعالج قضايا الأمة وهمومها، كقضية التخلف والانحطاط الحضاري، وغلبة الاستعمار وهيمنته على ديار الإسلام، والعجز النفسي وضعف العزيمة، والانبهار وعقدة الحقارة حيال الآخر. لقد حلل هذه القضايا من مسترشدا بالقرآن الكريم ناظرا في الآيات من منظور اجتماعي، وحرص على استجلاء معالجات القرآن وتدبيراته وسننه في الاجتماع البشري.
وهكذا نجد مثلا موضوعاً بعنوان «سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين» يكشف فيه عن قوانين النهوض والانحطاط في الاجتماع البشري، ويحث فيه على ضرورة إدراك الأمة ووعيها الدقيق لهذه القوانين، إذا ما أرادت المساهمة في صناعة التاريخ .
لقد كانت فكرة السنن الكونية ببعدها الاجتماعي تنضج في فكر تلميذه محمد عبده، فيأتي تفسيره للقرآن الكريم متوسعا في بيان جذور السنن، ولم يقتصر محمد عبده على ذلك، بل دعا لتدوين علم جديد يعنى بفقه السُّنن. ووجد أن تخلف المسلمين اليوم يبرر تدوين مثل هذا العلم، فمثلما بررت حاجات الأمة في الماضي تدوين علوم أصول الدين والفقه وغيرهما، فان المتطلبات الجديدة تقضي ببناء علم السُّنن .
وتعتبر مدرسة المنار في التفسير التجسد الأول لأفكار محمد عبده في هذا الاتجاه، حيث أجلت مفهوم السنن الإلهية والكونية، وأرست دعائم نظرية السنن، حتى إن من الباحثين من اعتبر أنه لأول مرة في تاريخ التفسير توصف السنن بأنها قواعد ثابتة وكونها مما يقتضيه النظام العام للمجتمعات، وذلك في تفسير المنار .
واستمرت الدعوة التجديدية الإصلاحية في العالم الإسلامي، منطلقة من آلام التخلف الحضاري الذي ترزح تحته الأمة الإسلامية، ملقية نظرة تقييمية لحضارة الغرب التي تتألق يوما بعد يوم في عالم المادة والرفاهية، انطلقت تشق طريقها نحو النموذج الحضاري الإسلامي، المستهدي بروح القرآن، فلا تجد أمامها إلا آيات السنن الكونية، تستنبط منها طريق الاستنهاض والنهوض.
وقد وجد فقه السنن تطبيقات ناضجة له في أعمال مالك بن نبي، التي عالجت مشكلات الحضارة والعوامل النفسية والاجتماعية لتطور الأمم وانحطاطها. وكذالك في تفسير سيد قطب الذي أعطى للجانب الاجتماعي السنني حقه في التحليل والدراسة، وهو يمر بالآيات التي تتناول هذا الجانب، غير أن السيد قد حرر التصور الإسلامي للسنن الاجتماعية من النظرية العقلانية المغالية التي طبعت تفكير الرواد الأوائل، خاصة ما يتعلق بتأويل المعجزات أو ردها، ملتمسا لهم الأعذار.
وأحسب أن هذا النص المقتبس من كلام الشهيد سيد قطب مفيد لتسليط الضوء على التطور التاريخي الذي عرفته السنن الاجتماعية في فكر المصلحين الأوائل، يقول رحمه الله في كتاب الظلال: "فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها، وموجة الشكّ في مقومات الدين إلى قمتها. فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل. ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير. كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية، وتدرك ثباتها واطرادها، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام وهي في صميمها العقلية القرآنية فالقرآن يرد الناس الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة" .
ويبقى أن أول عمل يمكن أن تفضي إليه أي منهجية لتناول السنن الاجتماعية في القرآن الكريم، هي محاولة تصنيف هذه السنن، وإن كانت هي المطلب الأول التي تتوسل المنهجية إلى تحقيقه، فإنه يعد أيضا أول عقبة تعترض الباحث في موضوع السنن.
محاولة تصنيف السنن في القرآن الكريم
السنن الاجتماعية كثيرة جدا ومتشعبة، ولا بد للباحث من أن يعمد إلى تصنيف هذه السنن بهدف تيسير دراستها وإحكام فهمها. ولقد حاول بعض الباحثين إجراء تصنيف مناسب وجرد أنواع السنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم.
فقد صنف علي القريشي القوانين والسنن الاجتماعية في ثلاثة أنواع :
1- قوانين وسنن حتمية، ليس للإنسان تأثيرٌ على وجودها، ولا على فعلها وتأثيرها، ومثلها سنة شمولية العقاب الدنيوي في المجتمع الظالم، كما قال تعالى : "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الأنفال 25/). وسنة تلازم الإيمان والابتلاء، قال تعالى: "أَحَسِب أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ" ( العنكبوت /2).
2- سنن مشروطة: حيث يترابط فيها الشرط والجزاء، وذلك في إطار حادثتين، فيتحقق الجزاء كنتيجة محتومة لتحقق الشرط كما في قوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" ( الرعد /11) والسنة الشرطية مرتبطة بإرادة الإنسان وفعله.
4- سنن الاتجاهات العامة الموضوعية في حركة التاريخ والمجتمع، والتي تمتاز علاقة الإنسان بها بالمرونة، حيث تقبل التحدي على المدى القصير، ولكنها لا تقبله على المدى البعيد، ذلك إن هذه السنن ستسحق في النهاية من يتحداها أو يحاول الخروج عليها. . ومن أمثلتها سنن التدين قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" ( الروم/ 30).
غير أن التأمل في هذا التصنيف يجعلنا نعتقد أنه غير محكم ولا قويم، فإذا أخذنا بالتوصيف الأول للسنن، أي القوانين الحتمية، فإن ما يقابلها هو القوانين غير الحتمية، وفي اعتقادي أن القوانين والسنن الاجتماعية كلها حتمية، إلا ما استثني منها لكونه من الخوارق، أو ما اقتضت حكمة الله تعطيله وعدم الأخذ به، إثباتا لقدرة الله في تعطيل السنن نفسها، وتجليا من تجليات حكمة الله التي قد تخفى في كثير من الأحيان عن الفهم الإنسان والإدراك البشري، وحتى لا يتوهم متوهم أن هذه السنن فوق الإرادة الإلهية، غير أن هذا لا يتصور أن يحدث هذا إلا في نطاق محدود.
أما إذا أخذنا بالتوصيف الثاني، وهو "السنن المشروطة"، فإن ما يقابلها هو السنن غير المشروطة، أي التي تحصل من غير أسباب اقتضتها ولا ظروف هيأتها، وهذا ينافي طبيعة السنن كما بيناها وأجلينا خصائصها، فالسنن مرتبطة بشروطها. وقولنا السنن الحتمية لا يقتضي عدم ارتباطها بعلل وأسباب، وإنما استمدت حتميتها من استجماع شروطها وانتفاء موانعها.
هل يمكن أن نتلمس من التوصيف الثالث إمكانية التصنيف على أساس درجة الحتمية، فنتحدث عن سنن حتمية على المدى القصير، لا تقبل التأجيل والتخير، وسنن حتمية على المدى البعيد قد تقبل من يتحداها على المدى القريب لكنها لا تقبل ذلك على المدى البعيد؟ الجواب أيضا بالنفي، لأن من طبيعة السنن الاجتماعية أنها لا تظهر في آجال قريبة في الغالب، لأن التغيير في الأنفس والمجتمعات طبيعته البطء، بخلاف القوانين الكونية التي تظهر نتائج كثير منها على الإثر، كإحراق النار والإغراق بالماء وغيرها من التفاعلات الطبيعية.
إن تأمل السياق التفسيري لموضوع السنن في التفاسير، يقضي بعرضها اعتبارا لموضوعها ومجال تحكمها في ثلاث مجالات: من جهة كونها تأسيسا وبناء لواقع جديد، ومن جهة كونها تحصينا لهذا الواقع إذا هو تأسس، ومن جهة كونها تحذيرا للطرف الفاعل في هذا الواقع من مغبة السقوط والانهيار تبعا للمقصد الذي تدل عليه السنن بالنص أو الإشارة أو الإرشاد، استنهاضا وتكليفا، أو تصحيحا وتقويما، أو تنبيها وتحذيرا .
وفيما يلي محاولة لجرد السنن الاجتماعية وفقا لهذا التصنيف، مع الاستفادة من علم القواعد الفقهية في صياغتها قدر الإمكان، على أن اللائحة تبقى أولية غير تامة غرضها التمثيل لا الحصر.
محاولة صياغة السنن الاجتماعية صياغة قواعدية
1- سنن التأسيس والبناء لواقع جديد: سنن النشوء والبناء، سنن الابتلاء والامتحان، سنن التدافع الحضاري، سنن التغيير والتحويل.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أن المصائب والشدائد والفتن والنوازل تبيِّن معادن الناس
2- سنن التحصين للواقع، سنن الصلاح والإصلاح
أن البلاء ما نزل إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة
3- سنن السقوط والانهيار: سنن السقوط، سنن الظلم والفساد والإفساد في الأرض، والتبديل
إن الله ما رفع شيئًا إلا وضعه
أن الأمور لا تبقى على حال.
وأملي لهم، إن كيدي متين
خاتمة.
ثم أما بعد، إن هذه الورقات يمكن أن تشكل مدخلا علميا لتناول السنن الاجتماعية في الواقع كما يفهمها ويؤصل لها القرآن الكريم، ولا شك أن أي بناء حضاري هو متوقف في الأساس على فهم بنية الحضارة وخصائص النفوس والمجتمعات، وهذا لا يمكن أن يكون على شكله الأمثل والأقوم إلا بالرجوع إلى النهل من القانون الإلهي الموضوع للكون وللبشر، والذي يمثل القرآن الكريم نسخته النهائية الخالدة، الصالحة لكل الأزمنة والعصور.
----------------------
هوامش
- عماد الدين خليل، "التفسير الإسلامي للتاريخ". بيروت، 1975.
- سيد قطب "في ظلال القرآن"،
- ابن منظور، "لسان العرب" 17/89
- انظر: محمد هيشور، "سنن القرآن في قيام الحضارة وسقوطها". القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996، ص8
- محمد قطب، "مفاهيم ينبغي أن تصحح"، ص 10
- كيف نتعامل مع القرآن 49. انظر بحث محمد السيسي، "السنن الاجتماعية في القرآن الكريم".
- محمد أمحزون، "الإعجاز السنني في القرآن الكريم" بحوث المؤتمر العالمي الثامن للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، 1427هـ
- محمد أمحزون، م س
- انظر: محمد الغزالي، "كيف نتعامل مع القرآن" ص: 49.
- محمد أمحزون، م س
- مولاي عمر بن حماد، "الاتجاه الاجتماعي في تفسير القرآن"، بحث مقدم في ندوة علوم الاجتماع.
- مولاي عمر بن حماد، م س
- مولاي عمر بن حماد، م س
- عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب: "الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع الدواعي والإمكان" للأستاذ: منصور زويد المطيري.
- محمد باقر الصدر "مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن"، دار التوجيه الإسلامي بيروت.
- م س
- م س
- محمد السيسي، "السنن الاجتماعية في القرآن الكريم"، م س
- عبد الجبار الرفاعي، "روّاد الإتجاهات الحديثة في التفسير"، 2003 موقع الوحدة
- محمد هيشور، "سنن القرآن في قيام الحضارة وسقوطها"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1996م، ص 9.
- محمد السيسي، "السنن الاجتماعية في القرآن الكريم"
- في ظلال القرآن، سيد قطب، ج8 ص104
- علي القريشي، "الغرب ودراسة الآخر أفريقيا أنموذجا"، ص83
- محمد السيسي، "السنن الاجتماعية في القرآن الكريم"، م س
الرسالة