إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} أما بعــد:
فيا أيها الناس: الموفق من الناس من عمل بطاعة الله، وطاعة رسوله e ، ثم هو مع هذه الطاعة مشفق وجل يخشى ألا يقبل منه ما عمل:{إنما يتقبل الله من المتقين}، ولقد سألت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت: يا رسول الله:{والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} يا رسول الله هو الذي يسرق، ويزني، ويشرب الخمر، وهو يخاف الله ؟ قال:(( لا ، يا ابنت الصديق، ولكنهم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم {أولئك يسارعون في الخيرات})) رواه أحمد والترمذي.
إن الحرص على قبول العمل مطلب عزيز، ورغبة نفيسة، يحول دونها ما يحول؛ من هوى النفس، والرياء، وحب السمعة والشهرة، ومنافسة من هم على شاكلته؛ وغير ذلك من حظوظ النفس الدنية، أو الحظوظ الدنيوية؛ التي تقطع على العامل عمله، وتحول دون سمو روحه، وقبول عمله.
لذا يا عباد الله: من تأمل جملة مباركة من أحاديث المصطفى e رأى فيها تصريحاً أو تلميحاً من الحث على كتمان الأعمال الصالحة رجاءَ الإخلاص والقبول.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ من تأمل الحديث رأى من السبعة ثلاثةً كلهم ذا عمل صالح يكتمه فواحد منهم: دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.. فهذا الرجل لم يمنعه من الولوغ في حمأة الرذيلة، وسوء المنقلب، إلا مراقبة الله، فهو صاحب عفة صادقة يكتمها ظهرت في هذا الموقف. والآخر: رجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ بلغ من شدة إخفائها: حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ متمثلاً قول الله:{إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم}.
والثالث: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، لم تفض عيناه بمجمع من الناس بل خالياً حيث لا توجد دوافع أخرى إلا مراقبة الله.
ولما سئل e عن الأعمال التي تقرب من الجنة وتباعد من النار قال: "وصلاة الرجل في جوف الليل ـ نعم في جوف الليل حيث الناس نيام ولا يراه أحد ـ ثم قرأ: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} رواه أحمد وأبو داود.
عباد الله: ولما كان عمل السرائر أعظمَ أجراً، وأقربَ إلى الإخلاص، وأرجى للقبول، عمل السلف الصالح جهدهم في إخفاء أعمالهم الصالحة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
* فهذا الصديق رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين كان إذا تعالى النهار خرج خُفية إلى بيت في أطراف المدينة يفعل ذلك كل يوم، فتبعه عمر رضي الله عنه ، فإذا امرأة عجوز، وإذا الصديق رضي الله عنه يقم بيتها، ويحلب شاتها، ويقضي حوائجها، فبكى عمر، وقال: لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.
*وهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ، يقول ابنه أبو بردة قال أبي:خرجنا مع رسول الله e في غزاة، ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه ـ نتناوب ركوبه ـ فنقبت أقدامنا، ونقبت قدمي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا من الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق، قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، قال: كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه.
* وهذا سيد التابعين من أهل البيت عليٌ زين العابدين كان أهله يظنون أنه يجمع الدراهم، وإنما كان ينفق سراً؛ قال شيبة بن نعامة: لما مات علي وجدوه يعول مئة أهل بيت. وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السر حتى توفي علي بن الحسين. ولما مات وجاء المغسل ليغسله رأى آثار سواد في ظهره فسأل أهله فقالوا: كان يحمل جرب الدقيق بالليل على ظهره يطوف بها على مساكين أهل المدينة.
*وكان بشر بن الحارث يقول: الصدقة أفضل من الحج والعمرة والجهاد؛ ثم قال: ذاك يركب ويرجع ويراه الناس، وهذا يعطي سراً لا يراه إلا الله عز وجل.
*وهذا أيوب السختياني كان يحيي الليل كله يخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. وقال بسطام بن حريث: كان أيوب يرق، فيستدمع، فيحب أن يخفي ذلك على أصحابه، فيمسك على أنفه كأنه رجل مزكوم، فإذا خشي أن تغلبه عبرتُه قام.
*قال أبو بكر المروزي: كنت مع الإمام أحمد نحواً من أربعة أشهر لا يدع قيام الليل، ولا قراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها كان يسر ذلك كله.
*وقال محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً ، كان الرجل يكون رأسه ورأس امرأته على وساد واحد؛ قد بلّ ما تحت خده من دموعه؛ لا تشعر به امرأته.
*إن إخفاء العمل الصالح رجاء الإخلاص مما يقود صاحبه إلى الدرجات العلى والنعيم المقيم؛ ففي الأثر: إن من خيار أمتي فيما نبأني الملأ الأعلى في الدرجات العلى قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة ربهم، ويبكون سراً خوفاً من شدة عذاب ربهم عز وجل، يذكرون ربهم في الغداة والعشي، عليهم من الله تعالى شهود حاضرة، وأعين حافظة، أقدامهم في الأرض، وقلوبهم في السماء.
*وقال كعب الأحبار: قال موسى عليه السلام: يا رب ما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه سراً ؟ قال: أجعله في كنفي، وأظله بظل عرشي.
* لقد كان السلف يرون علو مكانة الرجل، ورفعته على أقرانه؛ وما يبسط له من القبول؛ علامة على أن له أعمالاً صالحة لا يعلم بها أحد سوى الله تعالى، قال ابن المبارك: ما رأيت أحداً ـ يعني من العلماء ـ ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام؛ إلا أن تكون له سريرة من عمل صالح.
* وهذا ابن المبارك نفسه الذي لم يَفُقْهُ أصحاب رسول الله e إلا بفضل الصحبة قال عنه الإمام أحمد: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له، ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك.
يقول عبدة بن سليمان: كنا في سرية في بلاد الروم، وكان رجل من العدو لا يدع مبارزاً للمسلمين إلا قتله، فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا ـ أي ممن يفضح أعمالنا ـ.
* قال سفيان الثوري: قال أخبرتني سُرِّيَّةُ الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً إن كان ليجئ الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه. وكان يقول: كل ما لا يبتغى به وجه الله تعالى يضمحل.
*وأقام عمرو بن قيس الملائي عشرين سنة صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه ويصوم وأهله لا يدرون. وكان يقول: إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله.
*وهذا عبد الله بن عون كان يصوم يوماً ويفطر يوماً حتى مات، وكان إن وصل إنساناً بشيء وصله سراً، وإن صنع شيئاً صنعه سراً؛ يكره أن يَطَّلِع عليه أحد، وكان له سُبْعٌ يقرؤه كل ليلة فإذا لم يقرأه بالليل أتمه بالنهار.
* لقد كانوا رحمهم الله يخفون حتى ما يُقَدّر عليهم من البلاء محتسبين الثواب عند الله، فهذا أبو بكر بن عياش مكث عشرين سنة قد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به أهله.
* عباد الله: إن الشيطان أحرص ما يكون على إفساد أعمال العباد، وإدخالهم في باب الرياء، قال سفيان الثوري: بلغني أن العبد يعمل العمل سراً فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية ثم لا يزال الشيطان به حتى يحب أن يحمد عليه، فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء.
*وقال أبو سليمان: إن لإبليس شيطاناً لا يزال بابن آدم ليخبر بعملٍ قد عمله سراً منذ عشرين سنة ليظهره فيربح عليه ما بين أجر السر والعلانية.
اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، واجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا؛ يا ذا الجلال والإكرام ، قد قلت ما قلت ... واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود.
[u]
