الصحافة المصرية.. بين عهد الإنتداب البريطاني وقيام الثورة المصرية عام 1952
لما كانت النهضة الأدبية الحديثة التي عمت العالم العربي منذ مطلع القرن التاسع عشر نتيجة اللقاء بين الشرق والغرب، إثر حملة "نابليون" على مصر، كذلك كان مولد الصحافة العربية وليد إتصال الغربيين ببلاد المشرق العربي. فالفن الصحافي، كما نعرفه اليوم، إنما نشأ وترعرع في أحضان الحضارة الغربية، وكان الغربيون هم الذين ابتدعوه وحسّنوه وجاءوا به الى الشرق.
وسنتناول في بحثنا هذا، الصحافة المصرية في مختلف المراحل التاريخية التي عايشتها، وكان لها كبير الأثر في نشأتها وتطورها.
الوضع القانوني للصحافة المصرية في مراحل نشأتها الأولى
كان الوضع عشية تسلّم "توفيق" السلطة من الخديوي "إسماعيل" عام 1879 متوتراً. فالأزمة المالية إستفحلت وازداد التدخل الأجنبي وانقسم الجيش، ونمت الحركة الوطنية لتصل الى ثورة عرابي باشا، ثم الى الإحتلال الإنكليزي. وكان ضعف "توفيق" نقطة إنطلاق لسلسلة من الأحداث: تسمية رئيس وزراء متسلّط (رياض) قام بنفي جمال الدين الأفغاني، وحلّ مجلس النواب، وأعاد نظام الرقابة الفرنسية الإنكليزية على الميزانية المصرية، وأصدر قانون الصحافة عام 1881. فقبل هذا التاريخ لم تكن مصر تملك تشريعاً خاصاً بها، باعتبارها جزء من السلطنة العثمانية كانت خاضعة للقوانين السائدة في الإمبراطورية.
وتبعاً لهذا القانون، لم تكن الطباعة حرّة، فلم تلغَ الإلتزامات التي كانت ترد في القانون العثماني بحيث بقي فتح المطبعة أو نشر الجريدة خاضعاً لإذن إداري مسبق، والى كفالة مرتفعة تتراوح بين 50 و100 ليرة مصرية.
خلف "البارودي" "رياض" في رئاسة الوزارة وسمّى "عرابي باشا" وزيراً للدفاع، وتوقعت الصحافة إلغاء قانون 1881، لكن حصل العكس. فازدادت الحواجز والقيود وتتابعت التحذيرات التي تلقاها الصحفيون وخاصةً اللبنانيين، مما أدى الى إختفاء "الأحوال" ثم "الأهرام" والى تعليق "المحروسة" لمدة 3 أشهر، وبالمقابل الى إزدياد عدد الجرائد الموالية للحكومة.
العام 1882 شهد بداية الإحتلال البريطاني، فوجد البريطانيون في البداية بفضل قانون 1881 سلطة هائلة تخوّلهم وضح حد لوجود أية جريدة تظهر نوعاً من الإستقلالية. وعندما حلّ الهدوء سنة 1894 تغاضت الحكومة البريطانية عن تطبيق هذا القانون وعرفت الصحافة فترة من الحرية المؤقتة.
وهذا لا يعني أن الحاكم البريطاني "كرومر" كان لا يتدخل أبداً في شؤون الصحافة، إنما كان يلجأ من وقت لآخر لمحاربة الصحف المعارضة. فمكاتب البريد كانت تتأخر قصداً عن توزيع الجرائد المعارضة على المشتركين،
وكان يشتري رضا الجرائد بالأموال، وأحياناً بإعطائها المعلومات وحصرها بها دون غيرها، الأمر الذي زرع بذور الشقاق بين الصحافة التي انقسمت الى مؤيدة ومعارضة.
وبما أن الصحافة المصرية لم تعد خاضعة لقانون 1881، فالتجاوزات لم تتأخر عن الظهور. نتج عن ذلك إحداث تغييرات سنة 1904 لبعض تنظيمات القانون الجزائي، التي أخذت بعين الإعتبار الإحتجاجات التي ارتفعت في كل الأمكنة ضد تجاوزات الصحافة. فأضافت الى القانون الجزائي مواداً تميل الى كبح هذه التجاوزات بقسوة عن طريق فرض عقوبات قاسية على الصحفيين الذين كانوا يعيشون على الإبتزاز والتحايل.
ورغم هذه العقوبات، فإن التجاوزات إستمرت في الظهور، وهذا حدا بالحكومة سنة 1909 الى تطبيق قانون 1881 بشدة، خاصةً بعدما تشكلت سنة 1907 عدة أحزاب سياسية: الحزب الوطني، حزب الأمة.. مما يعني أن الشعور الوطني بدأ يستيقظ والشعب بدأ يهتم بالسياسة عن كثب.
وبسبب قرار المحكمة هذا، تعالت الأصوات المحتجة، لكن عبثاً. فخلال نفس السنة طُبّق القانون على جريدة "اللواء" الناطقة بإسم الحزب الوطني، حيث حُكم على رئيس التحرير بالسجن لمدة 3 أشهر. وكي يتسنى للحكومة معاقبة الصحفيين المعارضين، قررت إحالة قضايا الصحافة الى محكمة الجنايات. ومع إعلان الحرب العالمية الأولى، وُضعت مصر تحت الإنتداب البريطاني، وطُبقت الرقابة بقسوة. ولدى نهاية الحرب وتوقيع الهدنة وإعلان مبادئ "ولسون" ونهوض الشعور الوطني، أخذت أهمية الصحافة تزداد.
الصحافة المصرية بين عرابي وكرومر
شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر ميلادي من تاريخ مصر، صراعاً دولياً حول فرض السيطرة عليها بين تيارات متعددة بل ومتضاربة في كثير من الأحيان. لقد كان هناك النفوذ العثماني الذي بدأ تياره في الإنحسار، وإن بقي يستمد قوته من طبيعة العلاقة بين مصر والدولة العثمانية، إعتماداً على أن السلطان العثماني هو صاحب الولاية الشرعية على مصر. وكانت هناك الوطنية المصرية التي بلغت ذروتها خلال الثورة العرابية، والتيارات الأوروبية التي كان لها إتجاهان رئيسيان تتزعم الأول بريطانيا والثاني فرنسا. وقد سعت جميع العناصر الى إصدار صحف تعبّر عن آرائها وتدافع عن مصالحها تجاه القضايا والأحداث، حتى أصبحت الصحف هي أول نشاط جماهيري منظّم لهذه العناصر. وتطور الأمر بعد ذلك لتقوم الأحزاب المصرية منطلقة من صحافتها، أي أن التكوين الرسمي والقانوني للأحزاب المصرية قد سبقه قيام صحافة حزبية، لهذا فإنه كان يوجد في مصر قبل قيام الأحزاب، صحف وطنية تصدّت للإحتلال البريطاني وعارضته. كما كانت هناك صحف مؤيدة للإحتلال، أعانتها السلطات البريطانية على التصدي للتيارات الوطنية التي حملت لواءها الصحف الأخرى. كما ظهرت الصحف ذات الميول الفرنسية، والتي كانت تتفق وتختلف مع الصحف الوطنية بالقدر الذي يخدم معارضتها للسياسة البريطانية في المنطقة خدمةً لمصالح فرنسا، كما كانت هناك تيارات صحفية مؤيدة للسلطان العثماني.
وليس معنى ذلك أن جميع الصحف المصرية في ذلك الوقت كانت تدخل ضمن هذه التقسيمات. فقد كانت هناك أيضاً صحف ليس لها لون محدّد وتتقلب بين أكثر من إتجاه حتى بهت لونها وصعُب تمييزه، أو أنها استطاعت في كثير من الأحيان أن تخفي حقيقة إتجاهاتها مستترة بستار الحياد والموضوعية. كما أن ذلك أيضاً لا يعني أن كل صحيفة إلتزمت بخط معين لم تحد عنه واستمرت ثابتة على موقف واحد، فقد غيّرت بعض الصحف من مبادئها التي أعلنتها. وربما كان أبرز مثال على ذلك هو جريدة "المؤيد"، فقد كان صاحبها الشيخ "علي يوسف" من ألّد أعداء الإحتلال البريطاني، ومن أصدق المخلصين للخديوي، ثم ما لبث أن انقلب على صاحبه وأصبح من المؤيدين للإحتلال.
والذي ضاعف من خطورة الصحافة في هذه الفترة، أنها كانت تتمتع بقدر واسع من الحرية وسعة الإنتشار. ويرى بعض الباحثين أن الحرية التي تمتعت بها الصحافة المصرية خلال هذه الفترة كانت ظاهرية منحها لها حاكم مصر الفعلي في ذلك الوقت اللورد "كرومر"، الذي كان يدعم "المقطم" ويأمر بتزويدها بجميع الأخبار والأسرار. بينما صبر على الصحافة المناوئة، وأفسح لها صدره باعتبارها صحافة عزلاء فقيرة ليس من خطر فعلي منها، خاصةً أن قانون العقوبات كان يقف لها بالمرصاد.
وخلال فترة الإحتلال البريطاني لمصر، كانت الصحافة المصرية قد نضجت بعد أن أكملت من عمرها ما يزيد على نصف قرن. وبعد أن بدأت تأخذ بأساليب الصحافة والطباعة الحديثة، أخذت تلعب دوراً هاماً ورئيسياً في الأحداث السياسية.
وبدأ تاريخ الصحافة في مصر عندما أصدر "محمد علي" والي مصر أمره سنة 1827 بإصدار "جرنال الخديوي". وقد كان في الواقع يهدف الى إصدار نشرة خاصة ليطلع على شؤون البلاد وماليتها. ولكنه لم يلبث أن لمس حاجة الشعب للإطلاع على أعمال الحكومة، فأمر بتوسيع نطاق "جرنال الخديوي" الذي تحوّل الى صحيفة "الوقائع المصرية" إعتباراً من عام 1828، وكانت تُوزّع على من يسدد الإشتراك من موظفي الحكومة. وتلا ذلك ظهور "الجريدة العسكرية" عام 1833. وتعتبر صحف تلك الفترة بمثابة نشرات رسمية حيث وُلدت صحافة مصر في كنف الحكام ونمت بسلطانهم وخضعت لتوجيهاتهم الى أن ظهرت الصحافة الشعبية في عهد سعيد باشا (1854- 1863) الذي سعى الى التقرب من قلوب المصريين عندما باعدت سياسته وتصرفاته بينه وبين السلطان، بعدما كان هذا الأخير قد أوفد السلطان الى مصر "إسكندر شلهوب" ليصدر صحيفة "السلطنة" عام 1857 من أجل لفت أنظار المصريين الى الباب العالي.
وقبل أن تختفي "السلطنة" كانت جرائد الرأي قد ظهرت في مصر. ثم كان عصر "إسماعيل" عصر نهضة شاملة نتيجة فوزه بثمرة البعثات العلمية التي كان "محمد علي" قد أوفدها. وأوحى "إسماعيل" المولع بتقليد الأوروبيين الى "أبو السعود" بإصدار صحيفة "وادي النيل" سنة 1866، وهو نفس العام الذي أُنشأ فيه مجلس شورى النواب لتكون مدافعة عنه ضد جريدة "الجوائب" التي كانت تصدر بالقسطنطنية. ثم صدرت مجلة "نزهة الأفكار" لِ "إبراهيم المويلحي" سنة 1869 لتكون باكورة صحافة مصرية المنهج، ولكن الخديوي "إسماعيل" لم يلبث أن ألغاها، وعاد ليشجع النهضة التي حمل لواءها السوريون واللبنانيون الذي هاجروا الى مصر هرباً من تعسف السلطان "عبد الحميد". وقد إتسمت هذه النهضة بالنشاط الصحفي والمسرحي، وازدهرت بذلك في مصر الصحف الشعبية التي كان من بينها صحف مصرية خالصة، وأخرى تولتها الأقلام والعقول التي نزحت من الشام مثل "الأهرام"، وإن جمع بينها روح الإصلاح وإعداد البلاد الشرقية لإستقبال النهضة الأوروبية.
وشهدت سنة 1877 الحرب التركية الروسية التي كان لها أثر في تطور الصحافة المصرية، بحيث عمدت الى سرد أحداث الحرب والى الخوض في الأمور السياسية. ثم كان تشجيع "جمال الدين الأفغاني" لتلاميذه على إحتراف الصحافة، وكان من بينهم "أديب إسحق" و"يعقوب صنوع". فأصدر الأول جريدة "مصر" سنة 1877 وجريدة "التجارة" بالإسكندرية سنة 1879. وأصدر الثاني جريدة "أبو نظارة زرقاء" سنة 1877. وكان لحركة "الأفغاني" الصحفية ولتلاميذه أكبر الأثر في تنبيه الأذهان الى أصول المسائل وتعويد الناس الجرأة على إنتقاد الحكام وإظهار مكائد الأجانب وأطماعهم، بالإضافة الى تكوين جيل من الكتّاب قادر على تناول كل الأفكار بلغة جديدة.
وازدادت أهمية الصحافة المصرية في هذه الفترة عندما تشبّع الناس بآراء كتّابها وبدأوا يقتبسون منهم ويرددون عنهم، وهذا ما دعا "كرومر" الى إعتبار صحافة هذه الفترة مسؤولة عن تخلخل حالة الرضا والطاعة.
كما تولّت الصحف الدفاع عن الحركة الدستورية مما حدا بالخديوي "إسماعيل" الى إغلاق جريدة "نزهة الأفكار".
وعندما تولى الخديوي "توفيق" السلطة، واجهت الصحافة المصرية نكسة تمثلت في رفضه للإصلاحات الدستورية، رغماً أنه كان من مؤيديها، وبالأخص عندما أمر بنفي "جمال الدين الأفغاني"، وبدأ ما يمكن تسميته بعهد إرهاب الصحف. فأُغلقت "مصر الفتاة" و"مصر" و"التجارة"، وهرب "يعقوب صنوع" من مصر. وتحولت جريدة "الوقائع المصرية" الى جريدة رأي وأصبحت جريدة يومية حكومية رأس تحريرها الشيخ "محمد عبده".
ولجأ "يعقوب صنوع" بعد هربه الى إصدار صحيفته في الخارج وتهريبها الى مصر. وتصدت الحكومة لمنع دخولها هي وباقي الصحف المصرية التي كانت تُحرّر وتُطبع خارج مصر مثل جريدتي "النحلة" و"الشرق".
ولم تلبث الحركة العرابية أن ظهرت محاولةً الإستعانة بالصحف لدعوة الناس الى نصرتها، حتى أن الخديوي "توفيق" لم يجد أمامه من وسيلة لمواجهتها سوى إصدار صحف تدافع عنه وتواجه الحركة العرابية. فأوحى بإصدار صحيفة "البرهان" التي تولى تحريرها الشيخ "حمزة فتح الله" سنة 1881، والذي أصدر بعد ذلك صحيفة "الإعتدال"
كما لجأت الحكومة في ذلك الوقت الى إصدار قانون المطبوعات الشهير، ومهّدت الصحف الرجعية لهذا التشريع الذي كان بمثابة طعنة موجّهة الى الصحافة المصرية حيث أدى الى زيادة أعباء الصحف المالية، مما اضطر الكثير منها الى الإنزواء.
وعندما تولّت حكومة الثورة مقاليد الحكم في شباط 1882 ورأس "البارودي" الوزارة، تولى "عرابي باشا" وزارة الحربية، لم تعبأ هذه الوزارة بإلغاء قانون المطبوعات بل استخدمته لصالحها. فاستطاعت بذلك أن تنذر الصحف التي إختلفت معها، خاصةً صحف اللبنانيين والسوريين. واختفت صحيفة "الأهرام" وضعفت الصحف الموالية للخديوي، بينما استزاد العرابيون من صحف الثورة، فأصدر "النديم" صحيفة "الطائف"، وصدرت صحف ثورية أخرى مثل "المفيد" و"الفسطاط".
وبهزيمة الثورة العرابية في التل الكبير وإحتلال الإنكليز لمصر، بدأت حقبة جديدة من تاريخ الصحافة العربية، إختلفت حولها آراء كل الذين كتبوا في تاريخ الصحافة.
يرى البعض أن الإستعمار قام بتصفية الصحافة الوطنية، وأن "كرومر" جعل من الصحافة المصرية أداة إرهاب في يده، بينما هناك من يرى أنه أطلق للصحافة حريتها ولم يلجأ الى تنفيذ مواد قانون المطبوعات. وكانت وسيلته دعم الصحف المؤيدة له مادياً ومعنوياً عن طريق تزويدها بالأموال وبالأخبار دون غيرها، ومحاربة الصحف المعارضة عن طريق حجب المعلومات عنها حيناً وتأخير توزيعها قصداً من قبل مكاتب البريد حيناً آخر.
لكن يمكن القول أن "كرومر" كان يتغاضى أحياناً عن العمل بقانون المطبوعات حسب ما تقتضي مصالح الدولة المحتلة. وهذا دليل على أن "كرومر" لم يكن مخلصاً في توفير الحرية المطلقة للصحف المصرية، ولكنه كان يرى أن ذلك يوفر له عنصر أمان تطبيقاً لسياسة إنكليزية تهدف الى مواجهة الصحف الوطنية بصحف أخرى إستعمارية النهج، بدليل إيعازه الى أصحاب "المقتطف" بإنشاء صحيفة يومية سياسية تنافس "الأهرام" وتعارضها وتدافع عن المصالح البريطانية.
وبعد نهاية حكم "كرومر" تغير الحال تماماً وانقلب هذا الموقف الى نقيضه. حيث إتجه الحاكم الجديد "الدون جورست" الى تقييد الصحافة من جديد، وأعاد تطبيق قانون المطبوعات الذي أُهمل العمل به في عهد "كرومر"، وقد أُعيد تطبيقه بقرار وزاري صدر في آذار سنة 1909. والملفت للنظر في هذه الفترة هو إزدهار المجلات المتخصصة العلمية والزراعية والأدبية والدينية والنسائية.
أما أبرز صحف تلك الفترة، فكانت: "الأهرام"، "المقطّم"، "المؤيد"، "لسان العرب"، "اللواء"، و"الجريدة".
نظرة عامة في تطور وتقنية الصحافة بمصر خلال هذه الفترة
كان إنتشار الصحف محدوداً في هذه الفترة، فأكثرها إنتشاراً مثلاً كان يطبع من 3 آلاف الى 4 آلاف نسخة. وكان توزيعها يجري بطريقة الإشتراكات، فلكل جريدة أو مجلة وكلاء ومحصّلون يقومون بتوزيعها، وكان الإختلاس رائداً لكثير من الوكلاء. فالصحافة في ذلك العهد لم تكن قطّ من الأعمال الرابحة، ولذلك لم تصمد أمام الأزمات ولم يعمّر أكثرها طويلاً. ولولا بعض المعونات من جهات خاصة لما استطاعت أن تستمر في أعمالها، فقد كانت مهنة فقيرة ذات أجور بخسة.
أما الآلات المستعملة في الطباعة فكانت تُدار باليد، والصحف تُطبع على آلات مسطحة ولا تزيد صفحاتها عن الأربع، باستثناء "المقطّم" الجريدة الأولى التي كانت تظهر في ثماني صفحات (نظراً لمساعدة إنكلترا لها، ويُقال أنها كانت تُطبع في لندن وتُرسل الى مصر).
أما "الأهرام" فقد صدر العدد الأول منها في آب 1876. ومع إتباعها لطريقة طباعة الأوتوغراف تحوّلت الى يومية إعتباراً من سنة 1881. ثم أدخل الشيخ "علي يوسف" صاحب "المؤيد" المصرية الطباعة بطريقة الروتاتيف لأول مرة في العالم العربي، ثم تبعته "الأهرام" و"المقطّم" و"اللواء".
وكانت جرائد ذلك العهد خالية من الصور، إلا فيما ندر. وكان بعض أصحاب الصحف في ذلك الحين يقومون بتحرير الصحيفة وترجمة برقياتها وتصحيحها وإدارة سائر أعمالها بأنفسهم، وربما اشتركوا في توزيعها. وكانت مواد الجريدة تتألف من الإفتتاحية، رسائل الأقاليم، بريد أوروبا، رسالة الآستانة، الأخبار المحلية والبرقيات المختصرة جداً، ثم أنشات جريدة "اللواء" باباً جديداً للتعليق على أهم الأحداث اليومية.
ونظراً لإقبال القراء قبل الحرب العالمية الأولى على المجلات المصورة، رأى أصحاب الصحف أن يزينوا صفحاتها ببعض الصور، فاستحضروا آلات خاصة لحفر الزنكوغراف، وزادوا في حجم صحفهم، فصارت بعضها تصدر في 12 أو 16 صفحة. "الهلال" كانت في البداية شهرية، ثم تحوّلت الى نصف شهرية، عدد صفحاتها 33 صفحة، وبدأت إعتياراً من سنة 1920 تعرف الصور، ثم راحت تتحول الى مؤسسة تنشر عدة مطبوعات منها: "المصور" و"الإثنين" و"Image" بالفرنسية.
وأخذت الصحف في أوائل القرن العشرين تتسع دائرتها، وتتقدم بفضل تلك النهضة الصحفية التي أحدثها "مصطفى كامل" في "اللواء" و"علي يوسف" في "المؤيد" و"تقلا" في "الأهرام"، إذ أصدرت ملحقاً مجانياً وأرسلت مراسلين الى الخارج، واشتركت مع وكالتا "رويتر" و"هافاس". ومع إنشاء "الجريدة" لِ "أحمد لطفي السيّد" سنة 1907، خطت الصحافة المصرية خطوة جديدة وارتفعت رواتب المحررين، وظهر نوع جديد من المقالات الإجتماعية والفلسفية.
تطور الصحافة المصرية بعد الحرب العالمية الأولى
خرجت مصر من الحرب العالمية الأولى، وقد فُرضت عليها الحماية البريطانية، فأخذ المصريون يطالبون بالحرية والإستقلال. وكان يتزعم الحركة الوطنية في ذلك الحين "سعد زغلول" رئيس حزب الوفد، فأُبعد الى جزيرة مالطة. لكن الثورة عمت جميع أنحاء البلاد عام 1919، وكانت الصحف المصرية قد قاست الأمرّين في الرقابة خلال الحرب. وقد اختفت معظم الصحف الوطنية مثل "الشعب" و"المؤيد" و"الجريدة"، ولم يبقَ سوى "الأهرام" و"المقطّم" وغيرها القليل.
وعلى أثر إعلان الهدنة هبت الصحف الوطنية من جديد. لكن الأوامر صدرت بإقفال الجرائد المتطرفة، ومنع ظهور صحف جديدة، فلجأ الصحفيون الى طبع مناشير وكراريس بدلاً من الجرائد والمجلات. ولما صدر دستور عام 1923 الذي أقر حرية الرأي والصحافة والحياة البرلمانية، رأينا الصحافة تدخل في طور جديد من حياتها. فقد نشأت الأحزاب السياسية وأصدرت صحفاً تعبر عن آرائها، وأخذت تناوئ بعضها بعضاً، وتعرض الدستور للخطر بتعطيله تارةً واستبداله بآخر تارةً أخرى، وكثُرت المظاهرات من أجل الدستور الأصيل، فأعيد العمل به سنة 1935.
وقد وجدت الصحافة في هذه الأحداث مادة دسمة للأخبار والمقالات فازداد نشاطها. لكن الرقابة عادت لتُفرض من جديد خلال الحرب العالمية الثانية، ثم تُرفع بعد إنتهائها، ثم لتُفرض ثانيةً أثناء حرب فلسطين سنة 1945، ثم بعد حريق القاهرة سنة 1952، وتستمر بعد ثورة الجيش أياماً، ثم لتُفرض أثناء العدوان الثلاثي الإسرائيلي البريطاني الفرنسي سنة 1956. لكن سياستها العامة كانت مناصرة للقضايا الوطنية، غير أنها لم تسلم من تعسف الحكومات المتعاقبة التي كانت تفرض الرقابة الصارمة وتزج الصحافيين بالسجن، وتعطّل صحفهم. وظل الحال هكذا حتى أنشئ مجلس الشورى سنة 1946، فكان وجوده مبعث الحماية للصحافة من تعسف الحكومات.
الصحافة المصرية في عهد الثورة
ما إن أُعلنت الثورة المصرية سنة 1952 حتى رحّبت بها جميع الصحف، حتى أن بعض الصحف التي كانت تمجّد عهد "فاروق" إنقلبت الى مؤيدة لقادة الثورة. وقد تُركت الحرية للصحف بادئ الأمر، لكن أمام تمادي البعض عمدت الحكومة الى وقف بعض الصحف والى تنظيم الصحافة تنظيماً قوياً. ومن الصحف التي أوقفت في عهد الثورة جريدة "المصري"، التي حوكم أصحابها وصدر الحكم بتأميم ممتلكاتهم. ثم أخذت الصحف المصرية تتغربل شيئاً فشيئاً الى أن بقي في الميدان ثلاث صحف يومية فقط في القاهرة، هي: "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية". ومن الصحف الأسبوعية: "روز اليوسف" و"صباح الخير" و"المصوّر" و"الجيل" و"أخبار اليوم" و"وطني" و"الكواكب" و"حواء" و"آخر ساعة" و"الحقائق"، هذا فضلاً عن المجلات التي تصدرها الجمعيات والهيئات العلمية والنقابات. وقد جرت محاولات لوضع دستور للصحافة ينظم المهنة، غير أنها لم تنجح في البداية وظلت صحافة القاهرة رغم خضوعها للمنافسة التجارية منسجمة مع توجيه الدولة الرسمي، وأصبحت تتقيد بصورة جوهرية وأساسية بالخطوط الكبرى للإرشاد القومي.
تجدر الملاحظة الى أن جريدة "الأهرام" أصبحت تنطق بلسان الثورة منذ الأشهر الأولى لقيامها، كما أن جريدة "الأخبار" لم تقل عن "الأهرام" تقيداً بالتوجيهات الرسمية. بقيت هناك مجلات دور "روز اليوسف" و"أخبار اليوم" و"الهلال". والحقيقة أن هذه الدور التي كانت تصدر عدداً من المجلات، ظلت بعد الثورة تتمتع بشيء من الحرية فاستغلتها ببراعة فائقة، إما لدسّ ناعم على الثورة، وإما لنشر التحقيقات الجنسية والصور الفاضحة التي تستهوي المراهقين.
وظل الحال كذلك الى أن أصدر الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" قراراً بتاريخ 24 أيار سنة 1960 بتحويل ملكية صحف دور "الأهرام" و"الهلال" و"أخبار اليوم" و"روز اليوسف" الى الإتحاد القومي. ونص القرار على أنه لا يجوز إصدار صحيفة إلا بترخيص من الإتحاد القومي، كما لا يجوزلأي شخص أن يعمل في الصحافة بدون ترخيص من الإتحاد.
أما من الناحية الفنية، فقد تطورت الصحافة المصرية بعد الحرب العالمية الأولى تطوراً هائلاً، حتى أصبحت الجرائد المصرية تضاهي أمهات الصحف العالمية في حسن تبويبها وغزارة مادتها. والظاهرة البارزة التي تجلّت في صحافة مصر بعد الحرب هي تمركز الصحف في أيدٍ قليلة أو في أيدي شركات قوية، بعد أن كانت كثيرة العدد مبعثرة الإتجاهات فقيرة التوزيع والموارد.
ولذلك إذا ما قارنّا عدد الصحف التي كانت تصدر في مصر في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر وما تلاها من السنين التي سبقت الحرب الأولى، نجد أن الفرق كان كبيراً جداً من حيث عدد الصحف. فبينما كان عدد الصحف التي صدرت في مصر خلال تلك الفترة يبلغ 160 جريدة ومجلة سنوياً، أصبح مجموعها بعد الحرب لا يبلغ ثلث هذا العدد.
وهذا ما أفاد الصحف المصرية وقلل من المنافسة وجعلها تزداد قوةً وتوزيعاً. وقد كانت الصحف المصرية أسبق من غيرها الى إستخدام الآلات الطابعة الحديثة متقدمة بها على صحافة البلدان العربية الأخرى، مما زاد في سرعة طبعها وتحسين إخراجها وإظهارها بشكل لائق وجذاب.